هل الأخلاق مجرّد كذبة؟!
محمود القيسي
Saturday, 15-Nov-2025 06:41

"من بين الصدمات الكبرى التي أحدثها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في تاريخ الفكر الإنساني، كانت صدمته حول الأخلاق. لم يكن نقده للأخلاق مجرّد اعتراضٍ على قواعد أو قِيَم، بل كان تفجيراً للأساس كلّه. بينما كانت الفلسفات والأديان تُعامِل الأخلاق بوصفها شيئاً مقدّساً، سماوياً، متعالياً عن الإنسان... جاء نيتشه ليَهدم الفكرة من أساسها ويقول: الأخلاق كذبة!

بالنسبة إلى نيتشه، الأخلاق ليست حقيقة مُنزَلة من السماء، ولا تعبيراً عن طهارة الإنسان، بل تقنية دفاعية، حيلة، كذبة من نوع راقٍ اخترعها الإنسان ليتمكن من السيطرة على غرائزه العمياء... الإنسان عند نيتشه ليس كائناً أخلاقياً، بل هو كائن خطير تعلّم كيف يُقيِّد نفسه بالأخلاق. الغريزة الوحشية: العنف، الأنانية، الرغبة في السيطرة - هي طبيعته الأولى، ثم جاءت الأخلاق لتكون القفص الذي صنعه لألّا ينفلت هذا الوحش أو ما يُسمّى الإنسان!
في الخمسة عقود الأخيرةَ التي مررنا بها في الشرق الأوسط وما زلنا عالقين هناك في حروب وتعبئة لحروب عبثية أخرى، تتوّجت في أيامنا هذه منذ السابع من تشرين الأول 2023 بحرب الإبادة الجماعية، أو الملحمة البشرية الطاحنة في مدينة غزّة التي أصبحت مجرّد طريق وعنوان المقابر الجماعية المُظلمة، وليس الغرف المظلمة فقط من تجارب ما يُسمّى «الإنسان الذكي في القرن الـ21».
تجارب «الإنسان» على الإنسان في غرف أو معامل مختبرات الموت والعدوان والتدمير في أقصى ما تفنّنت وتفتّأت به العقلية الإسرائيلية والإيرانية في صراعهما، أو بالأحرى في تحالفاتهما السياسية والعسكرية الغادرة التي كُتب عنها الكثير والعديد من البحوث العلمية والدراسات في أهم جامعات العالم ومراكز البحوث والدراسات، ولم يلتفت إليها أحد، أو «البعض»، لأسباب صارت أكثر من معروفة في دولة المصالح العالمية العميقة الكبرى وأبعد...
تحالفاتهما «الخلفية» العميقة الغادرة التي تبادلوا فيها الأدوار منذ «إيران غيت» وأبعد، وصولاً إلى «غزّة غيت» وأبعد، التي تفضي بالإنسان إلى الرغبة في الفناء كما يقول «إريك فورم» في فناء إنسان آخر لأسباب تاريخية أو جيوسياسية، دينية، عرقية، مالية، ثقافية... أو كل هذه الأسباب وأكثر مجتمعةً. وقد تقود في نهاية الحروب والمطاف، إذا كان هناك من نهاية، إلى نهاية الذات.
إريك فروم يدخل بنا ببصيرة نفسية وفلسفية إلى غرفة مظلمة من تجارب الإنسان المظلم، الذي يعيش في الظلمة السياسية: غرفة العدوان والتدمير وأبعد...
في كتابه «تشريح التدميرية البشرية» أو تشريح سيكولوجيا العدوان وفهم العنف، بل تحليل هذا العنف كنمط للعيش عند البعض. نمط نفسي ليس مجرّد تأمل سريري في سلوكيات عدوانية متناثرة هنا وهناك، بل محاولة شاملة لقراءة الأسباب التاريخية والنفسية والاجتماعية التي تُفضي بالإنسان إلى الرغبة في الفناء - فناء الآخر وفي أحيانٍ كثيرة فناء الذات.
يبدأ فروم من إشكالٍ بسيطٍ لكنّه عميق: لماذا تُظهر الكائنات البشرية مَيلاً إلى التدمير لا يُفسِّره فقط غريزةً بيولوجية؟ ثم يوسّع الدائرة ليضمّ معارف من علم الأعصاب، علم الحيوانات، الأنثروبولوجيا، والتاريخ الاجتماعي، ليبني تفسيراً متعدِّد الأبعاد لا يكتفي بالتشخيص بل يسعى إلى الكشف عن الجذور.
الفكرة المركزية في الكتاب تقترح أنّ التدميرية ليست مجرّد سلوك معزول، بل نتاج شبكة من العوامل: بنية سياسية شخصية مجتمعية تُشَكَّل في سياق اجتماعي واقتصادي، ثقافة تشرّع التفكك، وأنماط اجتماعية تحفّز على إحساس بالعجز والاغتراب.
فروم يرفض التفسير الأحادي - أي تفسير العدوان كمسألة وراثية بحتة أو كعطل فردي - ويدعو إلى فهمٍ ينبني على تداخل النفسي بالسياسي والثقافي والمصالح الكبرى العميقة...
بهذا المعنى، يُقدِّم الكتاب إضافة فكرية هامّة: يربط بين ما هو داخل النفوس وما هو خارجها، ويُظهر أنّ مقاومة التدميرية تمرّ عبر تغييرٍ اجتماعي وتزوير ثقافي يُعيد للفرد إحساس الإنتماء المعنى.
الأسلوب في الكتاب واضح وحادّ، علمي ومدعوم بأدلة متنوّعة، لكنّه أيضاً إنساني وعاطفي: فروم لا يكتب من فوق الشجرة، بل من داخل القلق الإنساني، يبحث عن سُبلٍ للوقاية والإصلاح لا عن حلولٍ تقنية باردة. قراءة هذا الكتاب تمنح القارئ أدوات لفهم ظواهر العنف الجماعي، الحروب، الاستبداد، الموت الذي نعيشه على الشاشات الافتراضية فقط في حين تموت شعوب وتفنى شعوب على الأرض وتحت الأرض في الواقع. واقع الحروب، وحتى أشكال العنف اليومي المتخفّية تحت شعارات التقدّم أو الأمن.
إنّه نصٌ ضروري لكل مَن يهتم بفهم جذور الشرّ الإجتماعي ومحاولات مقاومته. قراءةٌ تقودك من التشخيص إلى التفكير الجماعي في بدائل إنسانية ممكنة.
فريدريش نيتشه لم يكن معنياً بمهاجمة الأخلاق، بل بمساءلة الدافع الذي وُلدت منه الأخلاق، وبهدم الوهم بأنّ الأخلاق دليل على النقاء؛ فالوحش بداخلنا لا يختفي عندما نتصرّف بشكل أخلاقي، بل يصبح أكثر مهارة في التخفّي. وهذا ما أراد نيتشه أن يهدمه: الأفعال الأخلاقية لا تُبرهِن على الطهارة، وعلى أنّ الإنسان فعلاً أخلاقي، بل تكشف عن المكان الذي نُخفي فيه دوافعنا الوحشية العميقة!

الأكثر قراءة